**هل يتعمد المصنعون تقليص عمر المنتجات لزيادة أرباحهم؟ نظرة متعمقة إلى التقادم المخطط**
في عالم يسوده الاستهلاك المتزايد، تتبدل
احتياجاتنا ورغباتنا بوتيرة متسارعة، وغالباً ما نجد أنفسنا مدفوعين إلى استبدال
مقتنياتنا وأجهزتنا قبل الأوان، حتى تلك التي تبدو في حالة جيدة. يثير هذا التساؤل
حفيظة المستهلك الواعي: هل يرجع ذلك حقاً إلى تطور التكنولوجيا وحتمية التقادم
الطبيعي، أم أن هناك عوامل أخرى خفية تتحكم في دورة حياة المنتجات؟
هل يتعمد المصنعون تقليص عمر المنتجات لزيادة أرباحهم؟ |
الجواب يكمن في مصطلح "التقادم المخطط"
أو "التقادم المتعمد"، وهو استراتيجية تجارية خفية تمارسها بعض الشركات
المصنعة، وتقوم على تصميم وإنتاج سلع ذات عمر افتراضي محدود ومقصود، بهدف إجبار
المستهلكين على استبدالها بصورة متكررة، وبالتالي زيادة حجم المبيعات وتحقيق أرباح
أعلى.
**ما هو التقادم المخطط؟**
التقادم المخطط هو ممارسة تجارية تهدف إلى تصميم وتصنيع المنتجات، سواء كانت أجهزة إلكترونية أو ملابس أو مواد غذائية، بطريقة تجعلها غير صالحة للاستخدام أو غير مرغوبة بعد فترة زمنية محددة، حتى وإن كانت لاتزال قادرة على العمل.
- لا يقتصر الأمر هنا على التقادم الطبيعي للمنتجات
- بسبب الاستهلاك أو التلف
- بل يتعداه إلى تصميم مقصود يجعل المنتج "مؤقتاً"
- أو
"قابلاً للاستهلاك" بصورة أسرع مما ينبغي.
يعتمد التقادم المخطط على عدة آليات، منها
1. **استخدام
مواد منخفضة الجودة:** يتم اختيار مواد رخيصة وهشة لتصنيع المنتج، مما يجعله أكثر
عرضة للتلف أو الكسر أو العطل بعد فترة قصيرة من الاستخدام.
2. **جعل
المنتجات صعبة الإصلاح:** يتم تصميم المنتجات بطريقة تجعل إصلاحها مكلفاً أو صعباً
أو مستحيلاً، مما يدفع المستهلك إلى التخلي عنها وشراء منتج جديد بدلاً من إصلاح
القديم.
3. **إصدار
نماذج محدثة بتغييرات طفيفة:** تقوم الشركات بإطلاق نماذج جديدة من المنتجات
بتغييرات شكلية أو تكنولوجية طفيفة، بهدف إغراء المستهلكين بشراء الإصدارات
الأحدث، حتى وإن كان المنتج القديم لا يزال يعمل بكفاءة.
4. **تحديد
تواريخ صلاحية قصيرة:** في مجال الأغذية، يتم وضع تواريخ صلاحية قصيرة على
المنتجات، مما يدفع المستهلك إلى التخلص منها حتى وإن كانت لا تزال صالحة
للاستهلاك، وبالتالي زيادة الطلب على المنتجات الجديدة.
5. **تغيير الاتجاهات والموضة:** يتم خلق
اتجاهات وموضات متغيرة بسرعة في عالم الملابس والإكسسوارات، مما يجعل المستهلك
يشعر بأن ملابسه أصبحت قديمة وغير عصرية، ويدفعه إلى شراء ملابس جديدة لمواكبة
الموضة.
**جذور التقادم المخطط**
لا يعتبر التقادم المخطط مفهوماً حديثاً، بل
تعود جذوره إلى بدايات القرن العشرين، عندما ظهرت فكرة "تاريخ انتهاء
الصلاحية" للمنتجات. اقترح تاجر العقارات الأمريكي "برنارد لندن" في
عشرينيات القرن الماضي، فكرة أن تحديد تاريخ انتهاء صلاحية للمنتجات من شأنه أن
يقلل من الهدر ويعزز التقدم الاقتصادي، إذ يجبر المستهلك على استبدال المنتج
بنموذج جديد.
- ومع مرور الوقت، تحول التقادم المخطط
- إلى تكتيك أكثر شراسة، خصوصاً مع تزايد قوة الشركات المصنعة
- وتزايد رغبة المستهلكين في مواكبة أحدث التقنيات والموضات
- وأصبح استبدال المنتجات بصورة متكررة أمراً طبيعياً
- في العصر الاستهلاكي، حتى وإن كانت المنتجات القديمة لا تزال تعمل بكفاءة.
**التقادم المخطط في مختلف الصناعات**
يمارس التقادم المخطط في مختلف الصناعات، ولكن
بأشكال مختلفة وأكثر دهاءً، وإليك بعض الأمثلة:
* **صناعة
التكنولوجيا والإلكترونيات:** تعتبر هذه الصناعة الأكثر شهرة في ممارسة التقادم
المخطط، حيث تقوم الشركات بتصميم الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وأجهزة
الكمبيوتر المحمولة بطريقة تجعلها غير صالحة للاستخدام بعد فترة قصيرة، إما بسبب
ضعف البطارية أو تلف الشاشة أو توقف تحديثات النظام. كما أن تصميم الأجهزة بطريقة
تجعل إصلاحها مكلفاً أو صعباً، يزيد من ميل المستهلكين إلى شراء أجهزة جديدة بدلاً
من إصلاح الأجهزة القديمة.
* **صناعة
الأغذية:** في هذه الصناعة، يلعب تاريخ الصلاحية دوراً كبيراً في التقادم المخطط،
حيث يتم وضع تواريخ صلاحية قصيرة على المنتجات، حتى وإن كانت لا تزال صالحة
للاستهلاك. كما أن تغيير مكونات المنتج أو طريقة تصنيعه قد تجعله أقل جودة أو أقل
جاذبية للمستهلك، مما يدفعه إلى شراء منتجات جديدة.
* **صناعة
الألبسة:** تشهد صناعة الموضة أيضاً ممارسة التقادم المخطط، حيث يتم تصميم الملابس
والإكسسوارات بطريقة تجعلها غير عصرية بعد فترة قصيرة، مما يدفع المستهلكين إلى
شراء ملابس جديدة لمواكبة الموضة. كما أن استخدام مواد رخيصة وهشة في صناعة
الملابس، يجعلها أكثر عرضة للتلف أو التمزق، مما يزيد من وتيرة شراء الملابس.
**آثار التقادم المخطط**
للتقادم المخطط آثار سلبية على كل من المستهلك
والبيئة، منها:
* **زيادة
التكاليف على المستهلكين:** يجبر المستهلك على استبدال المنتجات بصورة متكررة، مما
يزيد من أعبائه المالية، خاصة بالنسبة لأصحاب الدخول المحدودة.
* **انخفاض
جودة المنتجات:** عندما تعطي الشركات الأولوية للربح على الجودة، فإن ذلك يؤدي إلى
إنتاج منتجات أقل جودة وأكثر عرضة للتلف أو العطل.
* **زيادة
النفايات الإلكترونية والصلبة:** يؤدي التخلص المتكرر من المنتجات إلى زيادة كمية
النفايات الإلكترونية والصلبة، مما يضر بالبيئة والصحة العامة.
* **استنزاف
الموارد الطبيعية:** يتطلب إنتاج المنتجات الجديدة استهلاك كميات كبيرة من الموارد
الطبيعية، مثل المعادن والنفط والماء، مما يؤدي إلى استنزاف هذه الموارد وتدهور
البيئة.
* **عدم
الرضا والثقة بالشركات:** يؤدي استغلال الشركات للمستهلكين عن طريق ممارسة التقادم
المخطط إلى فقدان الثقة فيها وزيادة عدم الرضا تجاهها.
**هل من مخرج؟**
على الرغم من أن التقادم المخطط أصبح جزءاً لا
يتجزأ من النظام الاستهلاكي الحديث، إلا أن هناك بعض الخطوات التي يمكن للمستهلكين
والجهات الحكومية اتخاذها للحد من آثاره السلبية:
1. **زيادة
الوعي:** يجب على المستهلكين أن يكونوا على دراية بمفهوم التقادم المخطط وكيفية
تأثيره عليهم، وأن يكونوا أكثر وعياً باستهلاكهم وأن يختاروا المنتجات التي تتميز
بالجودة والمتانة بدلاً من المنتجات الرخيصة التي تتقادم بسرعة.
2. **تشجيع
الإصلاح وإعادة الاستخدام:** يجب على المستهلكين أن يشجعوا ثقافة الإصلاح وإعادة
استخدام المنتجات بدلاً من التخلص منها، وأن يدعموا الشركات التي تقدم خدمات
الصيانة والإصلاح.
3. **سن
القوانين والتشريعات:** يجب على الحكومات أن تسن قوانين وتشريعات تحمي المستهلكين
من ممارسات التقادم المخطط، وأن تشجع الشركات على إنتاج منتجات عالية الجودة
ومتينة.
4. **دعم الشركات المسؤولة:** يجب على
المستهلكين دعم الشركات التي تتبنى ممارسات مسؤولة تجاه البيئة والمجتمع، وأن
تختار المنتجات التي تم تصنيعها بطريقة مستدامة.
5. **تبني
أسلوب حياة مستدام:** يجب على المستهلكين تبني أسلوب حياة مستدام يركز على تقليل
الاستهلاك وإعادة الاستخدام والتدوير، بدلاً من الاستهلاك المفرط والتخلص العشوائي
من المنتجات.
**الخلاصة**
التقادم المخطط هو استراتيجية تجارية خفية تهدف
إلى زيادة أرباح الشركات على حساب المستهلك والبيئة. على الرغم من أن هذه الممارسة
أصبحت شائعة في العديد من الصناعات، إلا أن هناك طرقاً للحد من آثارها السلبية، من
خلال زيادة الوعي والتشجيع على الإصلاح وإعادة الاستخدام وسن القوانين والتشريعاتالتي تحمي المستهلكين والبيئة. يجب على المستهلكين أن يكونوا أكثر وعياً
باستهلاكهم وأن يختاروا المنتجات التي تدوم لفترة أطول، وأن يدعموا الشركات التي
تتبنى ممارسات مسؤولة تجاه البيئة والمجتمع.
أتمنى أن يكون هذا المقال قد قدم لك رؤية متعمقة
وشاملة حول موضوع التقادم المخطط. إذا كان لديك أي استفسارات أخرى أو طلبات، فلا
تتردد في طرحها.